كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



المناسب لذلك على ما ذكر غير واحد في معناه وسبب نزوله.
وفي {البحر} في بيان وجه الارتباط أنه تعالى لما قال: {فَوَرَبّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [الحجر: 92]. كان ذلك تنبيهًا على حشرهم يوم القيامة وسؤلهم عما فعلوه في الدنيا فقيل: {أتى أَمْرُ الله} فإن المراد به على قول الجمهور يوم القيامة، وذكر الجلال السيوطي أن آخر الحجر شديدة الالتئام بأول هذه فإن قوله سبحانه: {واعبد رَبَّكَ حتى يَأْتِيَكَ اليقين} [الحجر: 99]. الذي هو مفسر بالموت ظاهر المناسبة بقوله سبحانه هنا: {أتى أَمْرُ الله} وانظر كيف جاء في المتقدمة {يَأْتِيَكَ} بلفظ المضارع وفي المتأخرة {أتى} بلفظ الماضي لأن المستقبل سابق على الماضي كما تقرر في محله، والأمر واحد الأمور وتفسيره بيوم القيامة كما قال في {البحر} وفسر بما يعمه وغيره من نزول العذاب الموعود للكفرة، وعن ابن جريج تفسيره بنزول العذاب فقط فقال: المراد بالأمر هنا ما وعد الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم من النصر والظفر على الأعداء والانتقام منهم بالقتل والسبي ونهب الأموال والاستيلاء على المنازل والديار.
وأخرج ابن جرير وغيره عن الضحاك أن المراد به الأحكام والحدود والقرائض، وكأنه حمله على ما هو أحد الأوامر وفيما ذكره بعد إذ لم ينقل عن أحد أنه استعجل فرائض الله تعالى وحدوده سبحانه، والتعبير عن ذلك بأمر الله للتهويل والتفخيم، وفيه إيذان بأن تحققه في نفسه وإتيانه منوط بحكمه تعالى النافذ وقضائه الغالب، وإتيانه عبارة عن دنوه واقترابه على طريقة نظم المتوقع في سلك الواقع، وجوز أن يكون المراد إتيان مباديه فالماضي باق على حقيقته، ولعل ما أخرجه ابن مردويه من طريق الضحاك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه فسر الأمر بخروج النبي صلى الله عليه وسلم مؤيد لما ذكر وبعضهم أبقى الفعل على معناه الحقيقي وزعم أن المعنى أتى أمر الله وعدًا فلا تستعجلوه وقوعًا وهو كما ترى، وظاهر صنيع الكثير يشعر باختيار أن الماضي بمعنى المضارع على طريق الاستعارة بتشبيه المستقبل المتحقق بالماضي في تحقق الوقوع والقرينة عليه قوله سبحانه فإنه لو وقع ما استعجل وهو الذي يميل إليه القلب، والضمير المنصوب في {تَسْتَعْجِلُوهُ} على ما هو الظاهر عائد على الأمر لأنه هو المحدث عنه، وقيل: يعود على الله سبحانه أي فلا تستعجلوا الله تعالى بالعذاب أو بإتيان يوم القيامة كقوله تعالى: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالعذاب} [الحج: 47]، وهو خلاف الظاهر، لكن قيل: إن ذلك أوفق بما بعد، والخطاب للكفرة خاصة ويدل عليه قراءة ابن جبير {فَلا} على صيغة نهي الغائب، واستعجالهم وإن كان بطريق الاستهزاء لكنه حمل على الحقيقة ونهوا بضرب من التهكم لا مع المؤمنين سواء أريد بأمر الله تعالى ما قدمنا أو العذاب الموعود للكفرة خاصة، أما الأول: فلأنه لا يتصور من المؤمنين استعجال الساعة أو ما يعمها من العذاب حتى يعمهم النهي عنه، وأما الثاني: فلأن الاستعجال من المؤمنين حقيقة ومن الكفرة استهزاء فلا ينظمها صيغة واحدة والالتجاء إلى إرادة معنى مجازي يعمهما معًا غير أن يكون هناك نكتة سرية تعسف لا يليق بشأن التنزيل.
وادعى بعضهم عموم الخطاب واستدل بما روى عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه لما نزل قوله تعالى: {اقتربت الساعة} [القمر: 1]. قال الكفار فيما بينهم: أن هذا يزعم أن القيامة قد قربت فأمسكوا عن بعض ما تعملون حتى تنظروا ما هو كائن، فلما تأخرت قالوا: ما نرى شيئًا فنزلت {اقتربت لِلنَّاسِ حسابهم} [الأنبياء: 1]. فأشفقوا وانتظروا قربها فلما امتدت الأيام قالوا: يا محمد ما نرى شيئًا مما تخوفنا به فنزلت {أتى أَمْرُ الله} فوثب رسول الله صلى الله عليه وسلم فرفع الناس رؤسهم فلما نزل {فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ} اطمأنوا ثم قال صلى الله عليه وسلم: «بعثت أنا والساعة كهاتين وأشار بأصبعيه إن كادت لتسبقني» ولا دلالة فيه على ذلك لأن مناط اطمأنانهم إنما هو وقوفهم على أن المراد بالاتيان هو الإتيان الإدعائي لا الحقيقي الموجب لاستحالة الاستعجال المستلزمة لامتناع النهي عنه لما أن النهي عن الشيء يقتضي إمكانه في الجملة، ومدار ذلك الوقوف إنما هو النهي عن الاستعجال المستلزم لإمكانه المقتضي عدم وقوع المستحيل بعد، ولا يختلف ذلك باختلاف المستعجل كائنًا من كان بل فيه دلالة واضحة على عدم العموم لأن المراد بأمر الله إنما هو الساعة وصدور استعجالها عن المؤمنين مستحيل.
نعم يجوز تخصيص الخطاب بهم على تقدير كون أمر الله تعالى العذاب الموعود للكفرة خاصة، لكن الذي يقضي به الإعجاز التنزيلي أنه خاص بالكفرة كذا قاله أبو السعود.
وبحث فيه من وجوه، أما أولًا: فلأن الذي لا يتصور من المؤمنين الاستعجال بمعنى طلب الوقوع عاجلًا لاعده عاجلًا وسياق ما روى يدل على الأخير، فإنه لما سمعوا صدر الكلام حملوه على الظاهر فاضطربوا فقيل لهم: {فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ} أي لا تعدوه عاجلًا، على أن عدم تصور المعنى الأول أيضًا منهم في حيز المنع لجواز أن يستعجلوه لتشفي صدورهم وإذهاب غيظ قلوبهم والاستهزاء بهم والضحك منهم، وأما ثانيًا: فلأن الجمع بين الحقيقة والمجاز لعله مذهب ذلك القائل، وأما ثالثًا: فلأن القول بكون القراءة على صيغة نهي الغائب دالة على أن الخطاب مخصوص بالكفرة ممنوع والسند ظاهر، وأما رابعًا: فلأن نفي دلالة ما روي على العموم الخطاب غير موجه لعموم لفظ الناس، وأما خامسًا: فلأن قوله: بل فيه دلالة واضحة على عدم العموم لأن المراد بأمر الله تعالى إنما هو الساعة إلى آخره، يرد عليه أنه لا دلالة فيه أصلًا على عدم العموم فضلًا أن تكون واضحة، وقد عرفت ما في قوله: وقد عرفت وأما سادسًا: فلأن حصره المراد بالأمر في الساعة مخالف لما ذكره في تفسير قوله: {أتى أَمْرُ الله} حيث قال: أي الساعة أو ما يعمها وغيرها من العذاب فبعد هذا التصريح كيف يدعي ذلك الحصر؟ وفي بعض الأبحاث نظر.
وقال بعض الفضلاء: قد يقال: إن المراد بالناس في الخبر المؤمنون لما في خبر آخر أخرجه ابن مردويه عن الحبر قال: لما نزلت {أتى أَمْرُ الله} ذعر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزلت {فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ} فسكنوا.
وهذا أيضًا على ما قيل لا يقتضي كون الخطاب للمؤمنين لجواز أن يقال: إنهم لما سمعوا أول الآية ذعروا واضطربوا لظن أنه وقع فلما سمعوا خطاب الكفرة بقوله سبحانه: {فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ} اطمأنت قلوبهم وسكنوا، وقد يورد على دعوى أن صدور استعجال الساعة من المؤمنين مستحيل أن ذلك حق لو كان استعجالهم على طرز استعجال الكفرة لها وليس ذلك بمسلم فإنه يجوز أن يراد باستعجالهم اضطرابهم وتهيؤهم لها المنزل منزلة الاستعجال الحقيقي، واستدل على كون الخذاب للكفرة بقوله سبحانه وتعالى: {سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ} فإنه على ذلك التقدير يظهر ارتباطه بما قبله وذلك بأن يقال حينئذ: لما كان استعجالهم ذلك من من نتائج إشراكهم المستتبع لنسبة الله تعالى إلى ما لا يليق به سبحانه من العجز والاحتياج إلى الغير واعتقادهم أن أحدًا يحجزه عن إمضاء وعيده أو انجاز وعده قيل بطريق الاستئناف ذلك على معنى تنزه وتقدس بذاته وجل عن إشراكهم المؤدي إلى صدور أمثال هذه الأباطيل عنهم أو عن أن يكون له شريك فيدفع ما أراد بهم بوجه من الوجوه وقد كانوا يقولون على ما في بعض الروايات: إن صح مجيء ذلك فالأصنام تخلصنا عنه بشفاعتها لنا، والتعبير بالمضارع للدلالة على تجدد إشراكهم واستمراره والالتفات إلى الغيبة للإيذان باقتضاء ذكر قبائحهم للإعراض عنهم وطرحهم عن رتبة الخطاب وحكاية شنائعهم للغير وهذا لا يتأتى على تقدير تخصيص الخطاب بالمؤمنين وقيل في وجه الارتباط على ذلك التقدير: أنه تعالى لما نهاهم عن الاستعجال ذكر ما يتضمن أن إنذاره سبحانه وإخباره تعالى للتخويف والإرشاد وأن قوله جل وعلا: {أتى أَمْرُ الله} إنما هو لذلك فيستعد كل أحد لمعاده ويشتغل قبل السفر بتهيئة زاده فلذلك عقب بذلك دون عطف، وقد أشار بعضهم إلى ارتباط ذلك باعتباره ما بعده فيكون ما ذكر مقدمة واستفتاحًا له، وأيضًا فإن قوله تعالى: {أتى أَمْرُ الله} تنبيه وإيقاظ لما يرد بعده من أدلة التوحيد اه، وأنت تعلم أن الارتباط على ما قرر أولًا أظهر منه على هذا التقرير فافهم، ثم إن {مَا} تحتمل الموصولية والمصدرية والاحتمال الثاني أظهر، ولابد على الاحتمال الأول من اعتبار ما أشرنا إليه وإلا فلا يظهر التنزيه عن الشريك.
وقرأ حمزة والكسائي: {تُشْرِكُونَ} بتاء الخطاب على وفق {فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ} وقرأ باقي السبعة والأعرج وأبو جعفر وأبو رجاء والحسن بياء الغيبة، وقد تقدم أن في الكلام حينئذ التفاتًا وهو مبني على أن الخطاب السابق للكفرة أما إذا كان للمؤمنين أو لهم وللكفرة فلا يتحد معنى الضميرين حتى يكون التفات ولا التفات أيضًا على قراءة: {تُشْرِكُونَ} بالتاء سواء كان الخطاب الأول للكفرة أو لهم وللمؤمنين.
نعم في ذلك على قدير عموم الخطاب تغليبان على ماقيل الأول تغليب المؤمنين على غيرهم ف يالخطاب والثاني تغليب غيرهم عليهم في نسبة الشرك، وعلى قراءة: {يستعجلوه} و{يشركون} بالتحتية فيهما لا التفات ولا تغليب.
{يُنَزّلُ الملائكة} قيل هو إشارة إلى طريق علم الرسول صلى الله عليه وسلم بإتيان ما أو عدبه وباقترابه إزاحة لاستبعاد اختصاصه عليه الصلاة والسلام بذلك، وقال في الكشف: التحقيق أن قوله سبحانه: {أتى أَمْرُ الله} [النحل: 1]. تنبيه وإيقاظ ليكون ما يرد بعده ممكنًا في نفس حاضرة ملقية إليه وهو تمهيد لما يرد من دلائل التوحيد وقوله تعالى: {يُنَزّلُ الملائكة} إلخ. تفصيل لما أجمل في قوله سبحانه وتعالى أيقظ أولًا ثم نعى عليهم ما هم فيه من الشرك ثم أردفه بدلائل السمع والعقل، وقدم السمعي لأن صاحبه هو القائمون بالأمرين جميعًا فافهم.
وأخذ سيبويه منه أن جعل {يُنَزّلٍ} حالًا من ضمير {يُشْرِكُونَ} [النحل: 1]. لا يطابق المقام البتة انتهى.
وما ذكره من أمر الحالية إشارة إلى الاعتراض على شيخه العلامة الطيبي حيث جعل ذلك أحد احتمالين في الجملة، ثانيهما: مستأنفة وهو الظاهر، وما أشار إليه من وجه الربط وادعى أنه التحقيق لا يخلو عما هو خلاف المتبادر، والتعبير بصيغه الاستقبال للإشارة إلى أن التنزيل عادة مستمرة له تعالى، والمراد بالملائكة عند الجمهور جبريل عليه السلام ويسمى الواحد بالجمع كما قال الواحدي إذا كان رئيسًا، وعند بعض هو عليه السلام ومن معه من حفظة الوحي.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو {يُنَزّلٍ} مخففًا من الإنزال، وزيد بن علي رضي الله تعالى عنهما والأعمش وأبو بكر ينزل مشددًا مبنيًا للمفعول والملائكة بالرفع على أنه نائب الفاعل والجحدري كذلك إلا أنه خفف، وأبو العالية والأعرج والمفضل عن عاصم: {تُنَزَّلَ} بتاء لوقية مفتوحة وتشديد الزاي مبنيًا للفاعل وقد حفف منه أحد التاءين وأصله تتنزل، وابن أبي عبلة {نُنَزّلُ} بنون العظمة والتشديد، وقتادة بالنون والتخفيف، وفي هاتين القراءتين كما في البحر التفات {بالروح} أي الوحي كما أخرجه ابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن عباس ويدخل في ذلك القرآن، وروى عن الضحاك والربيع بن أنس الاقتصار عليه، وأيامًا كان فإطلاق {الروح} على ذلك بطريق الاستعارة المصرحة المحققة، ووجه الشبه أن الوحي يحيى القلوب الميتة بداء الجهل والضلال أو أنه يكون به قوام الدين كما أن بالروج يكون قوام البدن، ويلزم ذلك استعارة مكنية وتخييلية وهي تشبيه الجهل والضلال بالموت وضد ذلك بالحياة أو تشبيه الدين بإنسان ذي جسد وروح، وهذا كما إذا قلت: رأيت بحرًا يغترف الناس به وشمسًا يستغيثون بها فإنه يتضمن تشبيه علم الممدوح بالماء العظيم والنور الساطع لكنه جاء من عرض فليس كأظفار المنية وليس غير كونه استعارة مصرحة، وجعل ذلك في الكشف من قبيل الاستعارة بالكناية وليس بذاك، والباء متعلقة بالفعل السابق أو بما هو حال من مفعوله أي ينزل الملائكة ملتبسين بالروح، وقول سبحانه: {مِنْ أَمْرِهِ} بيان للروح المراد به الوحي، والأمر بمعنى الشأن واحد الأمور، ولا يخرج ذلك الروح من الاستعارة إلى التشبيه كما قيل في قوله تعالى: {حتى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخيط الابيض مِنَ الخيط الاسود مِنَ الفجر} [البقرة: 187]. لما قالوا: من أن بينهما بونًا بعيدًا لأن نفس الفجر عين المشبه شبه بخيط، وليس مطلق الأمر بالمعنى السابق مشبهًا به ولذا بينت به الروح الحقيقية في قوله تعالى: {قُلِ الروح مِنْ أَمْرِ رَبّى} [الإسراء: 85]. كما تبين به المجازية، ولو قيل: يلقى أمره الذي هو الروح لم يخرج عن الاستعارة فليس وزان {مِنْ أَمْرِهِ} وزان {مِنَ الفجر} [البقرة: 187]، وليس كل بيان مانعًا من الاستعارة كما يتوهم من كلام المحقق في شرح التلخيص.
وجوز أن يكون الجار والمجرور متعلقًا بمحذوف وقع حالًا من الروح على معنى حال كونه ناشئًا ومبتدأ منه أو صفة له على رأي من جوز حذف الموصول مع بعض صلته أي بالروح الكائن من أمره أو متعلقًا بينزل و{مِنْ} سببية أو تعليلية أو ينزل الملائكة بسبب أمره أو لأجله، والأمر على هذا واحد الأوامر، وعلى ما قبله قيل: فيه احتمالان.
وذهب بعضهم إلى أن {الروح} هو جبريل عليه السلام وأيده بقوله تعالى: {نَزَلَ بِهِ الروح الامين} [الشعراء: 193]، وجعل الباء بمعنى مع، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن {الروح} خلق من خلق الله تعالى كصور بني آدم لا ينزل من السماء ملك إلا ومعه واحد منهم، وروى ذلك عن ابن جريج وعليه حمل بعضهم ما في الآية هنا.
وتعقب ذلك ابن عطية بأن هذا قول ضعيف لم يأت له سند يعول عليه، وأضعف منه بل لا يكاد يقدم عليه في الآية أحد ما روى عن مجاهد أن المراد بالروح أرواح الخلق لا ينزل ملك إلا ومعه روح من تلك الأرواح {على مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ} أي أن ينزل عليهم لا لاختصاصهم بصفات تؤهلهم لذلك.
والآية دليل على أن النبوة عطائية كما هو المذهب الحق، ويرد بها أيضًا على بعض المتصوفة القائلين بأنه لا حاجة للخلق إلى إرسال الرسل عليهم السلام قالوا: الرسل سوى الله تعالى وكل ما سواه سبحانه حجاب عنه جل شأنه فالرسل حجاب عنه تعالى وكل ما هو حجاب لا حاجة للخلق إليه فالرسل لا حاجة إليهم، وهذا جهل ظاهر، ولعمري أنه زندقة وإحاد، وفساده مثل كونه زندقة في الظهور، ويكفي في ذلك منع الكبرى القائلة بأن كل ما سواه سبحانه الخ فإن الرسل وسيلة إلى الله تعالى والوصول إليه عز وجل لا حجاب، وهل يقبل ذو عقل أن نائب السلطان في بلاده حجاب عنه؟ وهب هذا القائل أمكنه الوصول إليه سبحانه بلا واسطة بقوة الرياضة والاستعداد والقابلية فالسواد الأعظم الذين لا يمكنهم ما أمكنه كيف يصنعون.
وممن ينتظم في سلك هؤلاء الملحدين البراهمة فإنهم أيضًا نفوا النبوة لكنهم استدلوا بأن العقل كاف فيما ينبغي أن يستعمله المكلف فيأتي بالحسن ويجتنب القبيح ويحتاط في المشتبه بفعل أو ترك، فالأنبياء عليهم السلام إما أن يأتوا بما يوافق العقل فلا حاجة معه إليهم أو بما يخالفه فلا التفات إليهم، وجوابه أن هذا مبني على القول بالحسن والقبح العقليين، وقد رفعت الأقلام وجفت الصحف وتم الأمر في إبطاله، وعلى تقدير تسليمه لا نسلم أن العقل يستقل بجميع ما ينبغي، ولا نسلم أيضًا أنهم إن جاؤوا بما يوافق العقل لا حاجة إليهم لجواز أن يعرفوا المكلف بعض ما يخفى عليه مما ينبغي له أو يؤكدوا حكمه بحكمهم، ودليلان أقوى من دليل، ولا نسلم أيضًا أنهم إن جاؤا بما يخالف العقل لا يلتفت إليهم لجواز أن يخالفوه فيما يخفى عليه، على أن ذلك فرض محال لإجماع الناس على أن الشرع لا يأتي بخلاف العقل في نفس الأمر وإنما يأتي بما يقصر عن إدراكه بنفسه كوجوب صوم آخر يوم من رمضان وحرمة صوم أول يوم من شوال، وتمام الكلام في ذلك يطلب من محله {أَنْ أَنْذِرُواْ} بدل من {الروح} على أن {إن} هي التي من شأنها أن تنصب المضارع وصلت بالأمر كما وصلت به في قولهم: كتبت إليه بأن قم، ولا ضير في ذلك كما حقق في موضعه أي ينزلهم ملتبسين بطلب الإنذار منهم.
وجوز ابن عطية وأبو البقاء وصاحب الغنيان كون {إن} مفسرة فلا موضع لها من الإعراب، وذلك لما في تنزيل الملائكة بالوحي من معنى القول كأنه قيل: يقول بواسطة الملائكة لمن يشاء من عباده أن أنذروا، وجوز الزمخشري ذلك وكون {إن} المخففة من المثقلة وأمر البدلية على حاله قال: والتقدير بأنه أنذروا أي بان الشأن أقول لكم أنذروا.